كان عيد الفطر المبارك من أبرز المناسبات الدينية والاجتماعية في الدولة العثمانية، حيث كان يُمثل نهاية شهر رمضان المبارك، شهر الصيام والعبادة. لم يكن العيد مُجَرّد احتفال ديني فحسب، بل كان فرصة للتعبير عن الوحدة الاجتماعية والثقافية، وكان له طابع خاصّ في القصور العثمانية، حيث كانت السلطانات العثمانيات مِن أمهات السلاطين وزوجاتهم وبناتهم - يلعبن دورًا محوريًا في التحضير لهذا الحدث الكبير. كانت التحضيرات تتضمن زينة القصور، واختيار الثياب الفاخرة، وإعداد الأطعمة التقليدية، بالإضافة إلى الطقوس الدينية والاجتماعية التي تعكس مكانة العائلة الحاكمة. في هذا التقرير، سنستعرض كيف كانت السلطانات العثمانيات يتحضّرْنَ لعيد الفطر، مع التركيز على التفاصيل التي تُبرز الفخامة والتقاليد العثمانية
تبدأ التحضيرات لعيد الفطر في القصور العثمانية قبل أيام من نهاية شهر رمضان. حيث كانت السلطانات، وخاصة "السلطانة الوالدة"، تتولى الإشراف على كافة التفاصيل. كانت هناك لِجان خاصة من الخدم والحاشية تُشَكّل تحت إدارة السلطانات لضمان تنظيم كل شيء بدقة. كان الهدف الأساسي هو إظهار عظمة الدولة العثمانية من خلال الاحتفالات، حيث كان العيد فرصة لاستقبال الضيوف من الطبقة الأرستقراطية والسفراء الأجانب، مما يعكس قوة ورفاهية السلطنة.
كانت السلطانات يبدأن بمراجعة القوائم الخاصة بالزينة والأطعمة والملابس، ويتم التنسيق مع التجار والحرفيين لتوفير أفضل المواد. على سبيل المثال، كان يتم استيراد الأقمشة الفاخرة من الهند والصين، مثل الحرير والمخمل، لتفصيل الملابس الخاصة بالعيد. كما كان يتم اختيار أجود أنواع التوابل والمكسرات لتحضير الحلويات التقليدية. هذا التخطيط المُسبق كان يعكس مدى اهتمام السلطانات بأدق التفاصيل لضمان أن يكون العيد حدثًا لا يُنسى
أَوَّلًا كانتْ الملابس التي ترتديها السلطانات في عيد الفطر تعكس مكانَتَهن الاجتماعية والسياسية. كانت السلطانات يخترن أفخم الأقمشة لتفصيل ثيابهن، مثل الحرير الهندي والمخمل الإيطالي، وكانت هذه الأقمشة تُطَرّز بالخيوط الذهبية والفضية، وتُزَين باللؤلؤ والأحجار الكريمة. كانت الألوان المفضلة تشمل الأحمر الداكن، والأزرق الملكي، والأخضر الزمرُّدي، وهي ألوان تَرمز إلى السلطة والنبل
كانت السلطانات يرتدين "القفطان"، وهو رداء طويل مُزَيّن بتطريزات مُعَقدة، مع أحزمة مرصّعة بالجواهر. كما كانت تُضاف طبقات من الشال الحريري المطرّز، ويُزَين الرأس بتيجان صغيرة مُرَصّعة بالأحجار الكريمة أو أغطية رأس مُطَرزة تُعرف بـ"الديستار". كانت المجوهرات تلعب دورًا كبيرًا في إكمال الإطلالة، حيث كانت السلطانات يرتدين القلائد الذهبية، والأقراط المرَصّعة بالماس، والأساور المُزَينة بالزمرد والياقوت
لم تكن الملابس مُجَرد زينة، بل كانت تعبيرًا عن الهُوِيَّة والسلطة. كانت السلطانات يحرصن على أن تكون إطلالتهن متناسقة مع بعضهن البعض، مما يعكس الوحدة بين أفراد العائلة الحاكمة. كما كان يتم تفصيل ملابس خاصة للأطفال في القصر، بحيث يشاركون في الاحتفال بأناقة مماثلة.
ثانِيًا كانت زينة القصور العثمانية جزءًا أساسيًا من التحضير لعيد الفطر، حيث كانت السلطانات يُشْرِفن على تزيين القاعات الكبرى والحدائق الداخلية للقصر. كان قصر "طوب كابي" في إسطنبول، على سبيل المثال، يتحوّل إلى تحفة فنية خلال العيد. كانت تُعلّق الفوانيس المزخرفة المصنوعة من النحاس والزجاج الملون في كل أنحاء القصر، وتُضاء ليلاً لتعكس أجواء احتفالية ساحرة. كما كانت تُفرش السجاد الفارسي الفاخر ذو الألوان الزاهية، مثل الأحمر والأزرق والذهبي، في قاعات الاستقبال.
لم تكتفِ السلطانات بذلك، بل كانت تُضاف الزهور الطبيعية، مثل الورود والياسمين، لتزيين الطاولات والمداخل، مِمَّا يُضفي رائحة عطرية مُمَيزة على الأجواء. كما كانت تُعلق الأقمشة الحريرية المُطرزة بالخيوط الذهبية على الجدران، وتُزَين النوافذ بستائر من المخمل المزخرف. كانت هذه الزينة تعكس الذوق الرفيع للسلطانات، وكانت تهدف إلى إبهار الضيوف وإظهار الرفاهية التي تتمتع بها العائلة الحاكمة.
ثالِثًا تَحْضِيرُ الحلويات والمأكولات التقليدية حيْثُ كان إعداد الأطعمة جزءًا لا يتجزأ من تحضيرات عيد الفطر، وكانت السلطانات يُشْرِفن على المطابخ الملكية لضمان تقديم أشهى الأطباق. كانت الحلويات تتصدر قائمة الأطعمة، حيث كان يتم تحضير "البقلاوة" المصنوعة من طبقات العجين المحشوَّة بالفستق والجوز، وتُسقى بشراب العسل أو السكر. كما كانت تُحضر "الكُنافة" بالجبن أو القشطة، وتُزيَّن بالفستق المطحون.
لم تكن الحلويات مقتصرة على هذه الأنواع، بل كان يتم تحضير "اللُقَيمات"، وهي كرات عجين مقلية تُغمس في شراب السكر، و"المعمول" المَحشو بالتمر أو المكسرات. كما كان يتِمُّ تقديم المشروبات التقليدية مثل "الشَربات"، وهو مشروبٌ مُحَلَّى بالفواكه أو الزهور، يُقدَّم باردًا للضيوف.
أما بالنسبة للأطباق الرئيسية، فكانت تُحَضَّرُ مأكولاتٌ دَسِمة مثل "الكباب" المشوي، و"الدولما" (ورق العنب المحشو بالأرز واللحم)، و"المنسف" المصنوع من اللحم والأرُز مع صلصة اللبن. كانت هذه الأطباق تُقَدَّم في صَواني نُحاسية كبيرة مزخرفة، وتُزَيَّن بالمكسرات والأعشاب الطازجة. كانت السلطانات يحرصن على أن تكون المائدة متنوعة وفاخرة، تعكس كرم الضيافة العثمانية.
رابِعًا الطقوس الدينية والاجتماعية: حيْثُ كان عيد الفطر يبدأ بأداء صلاة العيد في الصباح الباكر، وكانت السلطانات يُشاركن في هذه الطقوس الدينية بكل خشوع. كانت تُقام الصلاة في إحدى المساجد الكبرى، مثل مسجد "السليمانية" أو "آيا صوفيا"، حيث كان السلطان يتقدم الصفوف، بينما تُخصّص أماكن خاصة للسلطانات في الجزء المخصّص للنساء. كانت السلطانات يرتدين أثوابًا بيضاء مطرزة خلال الصلاة، مع أغطية رأس حريرية، لتعكس الطهارة والتواضع
بعد الصلاة، كان يتم تبادل التهاني داخل القصر، حيث كانت السلطانات يستقبلن الزوار من النساء الأرستقراطيات وزوجات الوزراء. كانت هذه الزيارات تتضمن تقديم الهدايا، مثل العطور الفاخرة والمجوهرات الصغيرة، وكانت تُقَدم الحلويات والمشروبات للضيوف. كما كان يتم توزيع الصدقات على الفقراء، وهي عادة دينية تُعرف بـ"زكاة الفطر"، حيث كانت السلطانات يُشْرفن على توزيع المواد الغذائية والملابس على المحتاجين.
كانت هناك أيضًا طقوس اجتماعية تشمل الألعاب والموسيقى، حيث كان يتم دعوة فرق موسيقية لعزف الألحان التقليدية العثمانية، وكانت السلطانات يشاركن في رقصات خفيفة مع النساء الأخريات في القصر. كما كان يتم تنظيم عروض للأطفال، مثل عروض الدُمى والمسرحيات القصيرة، لإدخال البهجة على أجواء العيد.
و أخِيرًا كانت السلطانات العثمانيات يتحَضرّن لعيد الفطر بكُلّ عناية وفخامة، مِمّا جعل هذه المناسبة حدثًا يعكس عظمة الدولة العثمانية وثقافتها الغنية. من خلال زينة القصور، والثياب الفاخرة، والأطعمة التقليدية، والطقوس الدينية والاجتماعية، استطاعت السلطانات أن يَخْلقن أجواءً احتفالية تجمع بين الروحانية والترف. هذه التحضيرات لم تكن مُجَرد مظاهر خارجية، بل كانت تعبيرًا عن قيم الكرم والوحدة والتقدير للتقاليد الإسلامية. إرث السلطانات العثمانيات في الاحتفال بعيد الفطر لا يزال مصدر إلهام حتى اليوم، حيث تُحتَفَظ بالعديد من هذه العادات في الثقافة التركية المعاصرة، مما يُبرز العمق التاريخي والثقافي لهذه المناسبة العظيمة
Commentaires